هذه المرة تجيء نذر إفلاس مصر من كل صوب وحدب. بدأ الأمر بتصريحات من وزير الصناعة والتجارة عن صعود متوقع فى عجز الموازنة ربما يؤدي «إلى عدم القدرة على سداد الرواتب إذا لم يتم التعامل معه». ثم يقول الأمين العام لجبهة الإنقاذ المعارضة محمد البرادعي بالنص وهو يدعو الرئيس لوقف الاستفتاء على الدستور وإعادة تشكيل الجمعية التأسيسية: «البلد على وشك الإفلاس. اذا اكملنا ٣ أشهر فلن نكمل ٤ أشهر». ويخبرنا الكاتب والسياسي محمد حسنين هيكل في نفس الليلة بفحوى لقاء بين محافظ المركزى فاروق العقدة والرئيس مرسي حذره فيه من أن «كل مصابيح الاقتصاد الحمراء صارت مضاءة».
الحديث عن إفلاس مصر تجدد مرات خلال السنتين الماضيتين في تزامن متطابق مع أزمات مصر السياسية، أشهرها كان فىي فبراير ٢٠١١ حينما حذرنا رئيس الوزراء العسكري آنذاك، أحمد شفيق، من مجاعة إن استمرت مظاهرات التحرير. بل وحذرنا الدكتور البرادعي نفسه في أكتوبر ٢٠١١ وسط أزمة محتدمة مع المجلس العسكري من أن مصر ستفلس خلال ٦ أشهر. بالطبع فإن الوضع السياسى المضطرب يترك أثرا سلبياً في وضعية الاقتصاد، ومن المؤكد أن الأوضاع الاقتصادية سيئة وأن حكومة الرئيس مرسي، تعول حتى الآن على الاستدانة الخارجية والمحلية فقط للتعامل معها. إلا أن حديث الإفلاس ورقة سياسية صار الجميع يستخدمها كلٌ لأهدافه. بل أحيانا في مناط الدفاع عن مبدأ «وداوها بالتي كانت هي الداء»، كما تفعل حكومة الرئيس مرسي حالياً باستخدام انهيار الاقتصاد، بفعل عقود من سياسات الخصخصة والتوجه للاستثمار الأجنبى وتطويع الاقتصاد والسياسة لحساب المستثمرين، كي تروج للمزيد من هذه السياسات نفسها.
متى تفلس الدول؟
الإفلاس السيادي Sovereign Default هو عدم قدرة الحكومة أو الدولة ذات السيادة أو رفضها لسداد ديونها أو إلتزاماتها. وقد يعنى ذلك إعلان التوقف عن سداد المترتبات من أصول وفوائد الديون رسمياً أو التوقف الفعلي عنه. وعادة ما يتعلق إفلاس الدول بالدائنين الأجانب، لأنه دائما فى قدرتها أن تطبع العملة المحلية لكى تسدد ديونها بها. وهذا ما دعا اليه الاقتصادي الكبير آلان جرينسبان، لرفض فكرة إفلاس الاقتصاد الأمريكي من حيث المبدأ قائلاً لقناة ”إن بي سي“ في أغسطس ٢٠١١ «احتمال إفلاس أمريكا صفر» وذلك بالطبع لأن لديها ميزة أن الدولار هو عملتها المحلية.
وهناك سوابق عالمية لتوقف الدول عن سداد ديونها منها الأرجنتين في العقد الماضى (كانت مدينة وحدها بما يصل لسبع ديون الدول النامية الخارجية) وما يثار حاليا عن اليونان «المعرضة للإفلاس».
لكن المقارنة باليونان تكشف أن دعاوي إفلاس مصر بهذا المعنى زائفة. ففي الحالة اليونانية وبالرغم من تلقى أثينا دعما أوروبيا بحوالى ١٤٨ مليار يورو وسياسات التقشف الهائلة التى حدثت وأنتجت ملايين العاطلين، ووصول معدل الدين إلى ١٧٦٪ من الناتج المحلي، ومع انكماش الاقتصاد بحوالي ٢٠٪ (أي إغلاق خمس قدرته الإنتاجية) منذ ٢٠٠٩، وتراجع احتياطياتها من النقد الأجنبي إلى 7.6 مليارات دولار، لم تعلن اليونان إفلاسها ولم يعلنها أحد دولة مفلسة للآن.
في مصر مازال الاقتصاد ينمو بمعدل 2.2٪. لدينا معدل دين مرتفع لكنه أقل بكثير من اليونان (حوالى ١٠٠٪ من الناتج المحلي)، واحتياطيات من النقد الأجنبي ضعف اليونان (فوق ال١٥ مليار دولار). ويشير تقرير البنك المركزي الصادر في نوفمبر إلى زيادة فى الودائع بالجهاز المصرفي من ١.٠٣ تريليون جنيه في يوليو ٢٠١٢ إلى ١.٠٥ تريليون بنهاية سبتمبر، منها ١١٦.٨ مليار جنيه ودائع حكومية بزيادة عن الشهر السابق، من ضمنها ما يوازي ٥٣ مليار جنيه بالعملة الأجنبية. وفيما يتعلق بسداد أجور الموظفين، فإنه لا احتمال على الإطلاق لفكرة الإفلاس. فأمام الدولة دائما أن تطبع النقد، وهو قرار له مساوئه طبعاً فيما يتعلق بالتضخم وغيره، إلا أن المقصود هو أنه لا مجال لتوقف الدولة عن سداد التزاماتها المحلية.
ولا يوجد حتى الآن، بالقياس وبالمعلومات المتوافرة رسمياً، ما يشير لعدم قدرة مصر على سداد التزاماتها بالدولار أيضا في الأمد الذي تحدث عنه البرادعي أو تتحدث عنه حكومة الرئيس مرسي.
لكن استبعاد الإفلاس لا ينفي أن هناك مشكلة كبرى في الاقتصاد وفي إدارته، يتعلق جزء كبير منها في الاهتمام بالجوانب المالية منه، وفي عزلة كاملة عن الاقتصاد الحقيقي. إذ تحدثنا الحكومة دائما عن العجز والدين العام ولا تحدثنا عن الوظائف وتحفيز الطلب المحلي. وحتى فى إطار الجانب المالي، فإن الحكومات المتعاقبة بعد الثورة (التى ورثت من نظام مبارك تركة ثقيلة من التشوهات والانحيازات الاقتصادية ضد الأغلبية ومن الفشل)، وقفت مشلولة دون أن تتحرك لاتخاذ أية إجراءات للتعامل مع الوضع حتى من زاوية خطط الطوارئ العاجلة، واقتصرت على الاستدانة والمزيد من الاستدانة مع العويل والتهديد بالكارثة المحدقة.
ما الذى كان يجب فعله ومازال يجب فعله؟
فى المعجم الوسيط الإفلاس حالة تترتب على توقف التاجر عن الوفاء بديونه. أما فى لسان العرب أَفْلَس الرجل: صار مُفْلِساً كأَنما صارت دراهِمه فُلُوساً وزُيوفاً. لكن فى لسان العرب هناك أيضا فَلَّس بفتح اللام وتشديدها. قد فَلَّسه الحاكم تَفْلِيساً: نادى عليه أَنه أَفْلَس. وفى معجم اللغة العربية المعاصر – فلَّس فلانًا : جعله يُفْلِس ؛ يفقد ماله «كم من رجل مستور قد فلَّسته امرأته حتَّى هام على وجهه». وكم من دولة ثائرة مستورة فَلَّسها مسؤولوها لحساب المصالح القديمة.
عند الأطباء هناك لكل مرض علاجان: أحدهما يشخص سبب الصداع والهزال والضعف ويعالج أصل المرض. وثانيهما ما يتعامل مع الأعراض فيصف ما يخفف من حدتها إلى حين ويكتفي بذلك فيزيد المرض إلى أن يأتى على المريض. وحال سياستنا الاقتصادية من النوع الثانى. أنظر مثلا للضغط على الجنيه. يخبرنا ساستنا الاقتصاديون بأن قيمة العملة تتراجع بسبب أننا نستورد أكثر مما نصدر، وبسبب خروج رؤوس الأموال من البورصة والأوراق الحكومية، بالإضافة إلى هروب الأموال – شرعية وغير شرعية - الذى تواصل على مدى سنوات قبل ٢٥ يناير وبعدها. يخبرنا هؤلاء عن تراجع عوائد الدولة من الضرائب وغيرها وزيادة إنفاقها في دعم الطاقة وغيره.
والحلول لهذا النوع من المشاكل معروفة ومعتادة ومنطقية وموجودة: عليك أن توقف النزيف من حيث منبعه: فتفرض ضريبة على الأموال الساخنة في البورصة لتقليص التذبذبات والضغوط على العملة وزيادة الحصيلة، فلتفَعِّل الضرائب على الأغنياء ورجال الأعمال المحتكرين (فى العقارات والأرباح الرأسمالية وضريبة التلوث لمصانع الأسمنت والسيراميك، مع إنفاذ قوانين مكافحة الاحتكار)، فلتفرض قيودًا على التحويلات الرأسمالية (حتى وإن كانت مؤقتة وهو أمر تسمح به حتى مقررات منظمة التجارة العالمية) فتقلل من المال الهارب، فلتقتد بتونس التي استردت ١٣ مليار دولار من أموال بن على الهارب وتضع خطة لاسترجاع أموال الفساد الهاربة من مبارك وأبنائه الذين هم تحت يديك في السجن. فلتقيد استيراد السلع الترفية فتوفر العملة الأجنبية. والأهم فلتضع تصورًا لسياسة صناعية (لا تعني الصناعة فقط وإنما سياسة اقتصادية متكاملة) لتحفيز الاقتصاد والتشغيل بإجراءات عاجلة تقيم عود الاقتصاد المريض سريعًا.
هذه أمثلة لإجراءات ممكنة لكن إفلاس السياسة وسياسات الإفلاس توقفها وتظهرها مستحيلة. بينما تترك المرض ينهش في المريض كي تعود الأعراض أكثر قسوة، فتتحين الفرصة لفرض سياسات التقشف برفع الأسعار على الفقراء، المتفق عليها مع صندوق النقد الدولي.
•••
وبين المُفْلِسين والمُفَلِّسين، تظهر قوة أخرى لا يحسب لها أحد حسابًا تصفها كلمات الصديق حاتم تليمة على صفحته على فيسبوك يوم الجمعة الماضية: في وسط صخب حواديت «نهاية العالم» والمناقشات الحامية حول التضامن من عدمه مع أحمد عرفة أو مع علياء المهدي ومع الصراع المتأجج على الساحة السياسية حول دستور العوار أو النائب «الملاكي» واستقالته، مر انتصار عمال مصنع الألومنيوم بنجع حمادى وعمال مصنع الشرقية للدخان بهدوء (إضرابان ناجحان لعشرات الآلاف ضد الفساد وللحصول على حصة من الأرباح). إضراب فاعل كمشرط جراحي يمر في مصارين الطبقة الحاكمة. هدوء يسبق العاصفة الهادرة: «الإضراب العام».
[عن جريدة "الشروق" المصرية]